سورة يونس - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما قال: {وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِي ءاياتنا} [يونس: 21] كان هذا الكلام كلاماً كلياً لا ينكشف معناه تمام الانكشاف. إلا بذكر مثال كامل، فذكر الله تعالى لنقل الإنسان من الضر الشديد إلى الرحمة مثالاً، ولمكر الإنسان مثالاً، حتى تكون هذه الآية كالمفسرة للآية التي قبلها، وذلك لأن المعنى الكلي لا يصل إلى أفهام السامعين إلا بذكر مثال جلي واضح يكشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي.
واعلم أن الإنسان إذا ركب السفينة ووجد الريح الطيبة الموافقة للمقصود، حصل له الفرح التام والمسرة القوية، ثم قد تظهر علامات الهلاك دفعة واحدة. فأولها: أن تجيئهم الرياح العاصفة الشديدة.
وثانيها: أن تأتيهم الأمواج العظيمة من كل جانب.
وثالثها: أن يغلب على ظنونهم أن الهلاك واقع، وأن النجاة ليست متوقعة، ولا شك أن الانتقال من تلك الأحوال الطيبة الموافقة إلى هذه الأحوال القاهرة الشديدة يوجب الخوف العظيم، والرعب الشديد، وأيضاً مشاهدة هذه الأحوال والأهوال في البحر مختصة بإيجاب مزيد الرعب، والخوف ثم إن الإنسان في هذه الحالة لا يطمع إلا في فضل الله ورحمته، ويصير منقطع الطمع عن جميع الخلق، ويصير بقلبه وروحه وجميع أجزائه متضرعاً إلى الله تعالى، ثم إذا نجاه الله تعالى من هذه البلية العظيمة، ونقله من هذه المضرة القوية إلى الخلاص والنجاة، ففي الحال ينسى تلك النعمة ويرجع إلى ما ألفه واعتاده من العقائد الباطلة والأخلاق الذميمة، فظهر أنه لا يمكن تقرير ذلك المعنى الكلي المذكور في الآية المتقدمة بمثال أحسن وأكمل من المثال المذكور في هذه الآية.
المسألة الثانية: يحكى أن واحداً قال لجعفر الصادق: اذكر لي دليلاً على إثبات الصانع فقال: أخبرني عن حرفتك: فقال: أنا رجل أتجر في البحر، فقال: صف لي كيفية حالك. فقال: ركبت البحر فانكسرت السفينة وبقيت على لوح واحد من ألواحها، وجاءت الرياح العاصفة، فقال جعفر: هل وجدت في قلبك تضرعاً ودعاء. فقال نعم. فقال جعفر: فإلهك هو الذي تضرعت إليه في ذلك الوقت.
المسألة الثالثة: قرأ ابن عامر {ينشركم} من النشر الذي هو خلاف الطي كأنه أخذه من قوله تعالى: {فانتشروا فِي الارض} [الجمعة: 10] والباقون قرؤا {يُسَيّرُكُمْ} من التسيير.
المسألة الرابعة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد يجب أن يكون خلقاً لله تعالى.
قالوا: دلت هذه الآية على أن سير العباد من الله تعالى، ودل قوله تعالى: {قُلْ سِيرُواْ فِي الارض} [الأنعام: 11] على أن سيرهم منهم، وهذا يدل على أن سيرهم منهم ومن الله، فيكون كسبياً لهم وخلقاً لله ونظيره.
قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق} [الأنفال: 5] وقال في آية أخرى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ} [التوبة: 40] وقال في آية أخرى: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا} [التوبة: 82] ثم قال في آية أخرى {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43] وقال في آية أخرى {وَمَا رَمَيْتَ إِذَا رَمَيْتَ ولكن الله رمى} [الأنفال: 7] قال الجبائي: أما كونه تعالى مسيراً لهم في البحر على الحقيقة فالأمر كذلك.
وأما سيرهم في البر فإنما أضيف إلى الله تعالى على التوسع. فما كان منه طاعة فبأمره وتسهيله، وما كان منه معصية فلأنه تعالى هو الذي أقدره عليه. وزاد القاضي فيه يجوز أن يضاف ذلك إليه تعالى من حيث إنه تعالى سخر لهم المركب في البر، وسخر لهم الأرض التي يتصرفون عليها بإمساكه لها، لأنه تعالى لو لم يفعل ذلك لتعذر عليهم السير.
وقال القفال: {هُوَ الذي يُسَيّرُكُمْ فِي البر والبحر} أي هو الله الهادي لكم إلى السير في البر والبحر طلباً للمعاش لكم، وهو المسير لكم، لأجل أنه هيأ لكم أسباب ذلك السير. هذا جملة ما قيل في الجواب عنه. ونحن نقول: لا شك أن المسير في البحر هو الله تعالى، لأن الله تعالى هو المحدث لتلك الحركات في أجزاء السفينة، ولا شك أن إضافة الفعل إلى الفاعل هو الحقيقة. فنقول: وجب أيضاً أن يكون مسيراً لهم في البر بهذا التفسير، إذ لو كان مسيراً لهم في البر بمعنى إعطاء الآلات والأدوات لكان مجازاً بهذا الوجه، فيلزم كون اللفظ الواحد حقيقة ومجازاً دفعة واحدة، وذلك باطل.
واعلم أن مذهب الجبائي أنه لامتناع في كون اللفظ حقيقة ومجازاً بالنسبة إلى المعنى الواحد.
وأما أبو هاشم فإنه يقول: إن ذلك ممتنع، إلا أنه يقول: لا يبعد أن يقال إنه تعالى تكلم به مرتين.
واعلم أن قول الجبائي: قد أبطلناه في أصول الفقه، وقول أبي هاشم أنه تعالى تكلم به مرتين أيضاً بعيد. لأن هذا قول لم يقل به أحد من الأمة ممن كانوا قبله، فكان هذا على خلاف الإجماع فيكون باطلاً.
واعلم أنه بقي في هذه الآية سؤالات:
السؤال الأول: كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر، مع أن الكون في الفلك متقدم لا محالة على التسيير في البحر؟
والجواب: لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير، بل تقدير الكلام كأنه قيل هو الذي يسيركم حتى إذا وقع في جملة تلك التسييرات الحصول في الفلك كان كذا وكذا.
السؤال الثاني: ما جواب {إِذَا} في قوله: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك}.
الجواب: هو أن جوابها هو قوله: {جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} ثم قال صاحب الكشاف:
وأما قوله: {دَّعَوَا الله} فهو بدل من {ظنوا} لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك.
وقال بعض الأفاضل لو حمل قوله: {دَّعَوَا الله} على الاستئناف. كان أوضح، كأنه لما قيل: {جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الموج مِن كُلّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} قال قائل فما صنعوا؟ فقيل: {دَّعَوَا الله}.
السؤال الثالث: ما الفائدة في صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة؟
الجواب فيه وجوه:
الأول: قال صاحب الكشاف: المقصود هو المبالغة كأنه تعالى يذكر حالهم لغيرهم لتعجيبهم منها، ويستدعى منهم مزيد الإنكار والتقبيح.
الثاني: قال أبو علي الجبائي: إن مخاطبته تعالى لعباده، هي على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام، فهي بمنزلة الخبر عن الغائب. وكل من أقام الغائب مقام المخاطب، حسن منه أن يرده مرة أخرى إلى الغائب.
الثالث: وهو الذي خطر بالبال في الحال، أن الانتقال في الكلام من لفظ الغيبة إلى لفظ الحضور فإنه يدل على مزيد التقرب والإكرام.
وأما ضده وهو الانتقال من لفظ الحضور إلى لفظ الغيبة، يدل على المقت والتبعيد.
أما الأول: فكما في سورة الفاتحة، فإن قوله: {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 2، 3] كله مقام الغيبة، ثم انتقل منها إلى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وهذا يدل على أن العبد كأنه انتقل من مقام الغيبة إلى مقام الحضور، وهو يوجب علو الدرجة، وكمال القرب من خدمة رب العالمين.
وأما الثاني: فكما في هذه الآية، لأن قوله: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك} خطاب الحضور، وقوله: {وَجَرَيْنَ بِهِم} مقام الغيبة، فهاهنا انتقل من مقام الحضور إلى مقام الغيبة، وذلك يدل على المقت والتبعيد والطرد، وهو اللائق بحال هؤلاء، لأن من كان صفته أنه يقابل إحسان الله تعالى إليه بالكفران، كان اللائق به ما ذكرناه.
السؤال الرابع: كم القيود المعتبرة في الشرط والقيود المعتبرة في الجزاء؟
الجواب: أما القيود المعتبرة في الشرط فثلاثة: أولها: الكون في الفلك.
وثانيها: جَرْيُ الفلك بالريح الطيبة.
وثالثها: فرحهم بها.
وأما القيود المعتبرة في الجزاء فثلاثة أيضاً: أولها: قوله: {جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} وفيه سؤالان:
السؤال الأول: الضمير في قوله: {جَاءتْهَا} عائد إلى الفلك وهو ضمير الواحد، والضمير في قوله: {وَجَرَيْنَ بِهِم} عائد إلى الفلك وهو الضمير الجمع، فما السبب فيه؟
الجواب عنه من وجهين:
الأول: أنا لا نسلم أن الضمير في قوله: {جَاءتْهَا} عائد إلى الفلك، بل نقول إنه عائد إلى الريح الطيبة المذكورة في قوله: {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ} الثاني: لو سلمنا ما ذكرتم إلا أن لفظ {الفلك} يصلح للواحد والجمع، فحسن الضميران.
السؤال الثاني: ما العاطف.
الجواب: قال القراء والزجاج: يقال ريح عاصف وعاصفة، وقد عصفت عصوفاً وأعصفت، فهي معصف ومعصفة.
قال الفراء: والألف لغة بني أسد، ومعنى عصفت الريح اشتدت، وأصل العصف السرعة، يقال: ناقة عاصف وعصوف سريعة، وإنما قيل {رِيحٌ عَاصِفٌ} لأنه يراد ذات عصوف كما قيل: لابن وتامر أو لأجل أن لفظ الريح مذكر.
أما القيد الثاني: فهو قوله: {وَجَاءهُمُ الموج مِن كُلّ مَكَانٍ} والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر.
أما القيد الثالث: فهو قوله: {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} والمراد أنهم ظنوا القرب من الهلاك، وأصله أن العدو إذا أحاط بقوم أو بلد، فقد دنوا من الهلاك.
السؤال الخامس: ما المراد من الإخلاص في قوله: {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين}.
والجواب: قال ابن عباس: يريد تركوا الشرك، ولم يشركوا به من آلهتهم شيئاً، وأقروا لله بالربوبية والوحدانية.
قال الحسن: {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ} الإخلاص الإيمان، لكن لأجل العلم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله تعالى، فيكون جارياً مجرى الإيمان الاضطراري.
وقال ابن زيد: هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون، فإذا جاء الضر والبلاء لم يدعوا إلا الله.
وعن أبي عبيدة أن المراد من ذلك الدعاء قولهم أهيا شراهيا تفسيره يا حي يا قيوم.
السؤال السادس: ما الشيء المشارإليه بقوله: {هذه} في قوله: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه}؟
والجواب المراد لئن أنجيتنا من هذه الريح العاصفة، وقيل المراد لئن أنجيتنا من هذه الأمواج أو من هذه الشدائد، وهذه الألفاظ وإن لم يسبق ذكرها، إلا أنه سبق ذكر ما يدل عليها.
السؤال السابع: هل يحتاج في هذه الآية إلى إضمار؟
الجواب: نعم، والتقدير: دعوا الله مخلصين له الدين مريدين أن يقولوا لئن أنجيتنا، ويمكن أن يقال: لا حاجة إلا الإضمار، لأن قوله: {دَّعَوَا الله} يصير مفسراً بقوله: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} فهم في الحقيقة ما قالوا إلا هذا القول.
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذا التضرع الكامل بين أنهم بعد الخلاص من تلك البلية والمحنة أقدموا في الحال على البغي في الأرض بغير الحق.
قال ابن عباس: يريد به الفساد والتكذيب والجراءة على الله تعالى، ومعنى البغي قصد الاستعلاء بالظلم.
قال الزجاج: البغي الترقي في الفساد قال الأصمعي: يقال بغى الجرح يبغي بغياً إذا ترقى إلى الفساد، وبغت المرأة إذا فجرت، قال الواحدي: أصل هذا اللفظ من الطلب.
فإن قيل: فما معنى قوله: {بِغَيْرِ الحق} والبغي لا يكون بحق؟
قلنا: البغي قد يكون بالحق، وهو استيلاء المسلمين عل أرض الكفرة وهدم دورهم وإحراق زروعهم وقطع أشجارهم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة. ثم إنه تعالى بين أن هذا البغي أمر باطل يجب على العاقل أن يحترز منه فقال: {يا أيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الحياة الدنيا} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ الأكثرون {متاع} برفع العين، وقرأ حفص عن عاصم {متاع} بنصب العين، أما الرفع ففيه وجهان:
الأول: أن يكون قوله: {بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} مبتدأ، وقوله: {مَّتَاعَ الحياة الدنيا} خبراً. والمراد من قوله: {بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} بغي بعضكم على بعض كما في قوله: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54] ومعنى الكلام أن بغي بعضكم عن بعض منفعة الحياة الدنيا ولا بقاء لها.
والثاني: أن قوله: {بَغْيُكُمْ} مبتدأ، وقوله: {على أَنفُسِكُمْ} خبره، وقوله: {متاع الحياة الدنيا} خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هو متاع الحياة الدنيا.
وأما القراءة بالنصب فوجهها أن نقول: إن قوله: {بَغْيُكُمْ} مبتدأ، وقوله: {على أَنفُسِكُمْ} خبره، وقوله: {مَّتَاعَ الحياة الدنيا} في موضع المصدر المؤكد، والتقدير: تتمتعون متاع الحياة الدنيا.
المسألة الثانية: البغي من منكرات المعاصي.
قال عليه الصلاة والسلام: «أسرع الخير ثواباً صلة الرحم، وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة».
وروى: «ثنتان يعجلهما الله في الدنيا البغي وعقوق الوالدين».
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لو بغى جبل على جبل لاندك الباغي. وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه:
يا صاحب البغي إن البغي مصرعة *** فأربع فخير فعال المرء أعدله
فلو بغى جبل يوماً على جبل *** لاندك منه أعاليه وأسفله
وعن محمد بن كعب القرظي: ثلاث من كن فيه كن عليه، البغي والنكث والمكر، قال تعالى: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ}.
المسألة الثالثة: حاصل الكلام في قوله تعالى: {يا أيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} أي لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياماً قليلة، وهي مدة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها {ثُمَّ إِلَيْنَا} أي ما وعدنا من المجازاة على أعمالكم {مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا، والإنباء هو الإخبار، وهو في هذا الموضع وعيد بالعذاب كقول الرجل لغيره سأخبرك بما فعلت.


{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما قال: {يا أيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الحياة الدنيا} [يونس: 23] أتبعه بهذا المثل العجيب الذي ضربه لمن يبغي في الأرض ويغتر بالدنيا، ويشتد تمسكه بها، ويقوي إعراضه عن أمر الآخرة والتأهب لها، فقال: {إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الارض} وهذا الكلام يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون المعنى فاختلط به نبات الأرض بسبب هذا الماء النازل من السماء، وذلك لأنه إذا نزل المطر ينبت بسببه أنواع كثيرة من النبات، وتكون تلك الأنواع مختلطة، وهذا فيما لم يكن نابتاً قبل نزول المطر.
والثاني: أن يكون المراد منه الذي نبت، ولكنه لم يترعرع، ولم يهتز.
وإنما هو في أول بروزه من الأرض ومبدأ حدوثه، فإذا نزل المطر عليه، واختلط بذلك المطر، أي اتصل كل واحد منهما بالآخر اهتز ذلك النبات وربا وحسن، وكمل واكتسى كمال الرونق والزينة، وهو المراد من قوله تعالى: {حتى إِذَا أَخَذَتِ الارض زُخْرُفَهَا وازينت} وذلك لأن التزخرف عبارة عن كمال حسن الشيء. فجعلت الأرض آخذة زخرفها على التشبيه بالعروس إذا لبست الثياب الفاخرة من كل لون، وتزينت بجميع الألوان الممكنة في الزينة من حمرة وخضرة وصفرة وذهبية وبياض، ولا شك أنه متى صار البستان على هذا الوجه، وبهذه الصفة، فإنه يفرح به المالك ويعظم رجاؤه في الانتفاع به، ويصير قلبه مستغرقاً فيه، ثم إنه تعالى يرسل على هذا البستان العجيب آفة عظيمة دفعة واحدة في ليل أو نهار من برد، أو ريح أو سيل، فصارت تلك الأشجار والزروع باطلة هالكة كأنها ما حصلت ألبتة. فلا شك أنه تعظم حسرة مالك ذلك البستان ويشتد حزنه، فكذلك من وضع قلبه على لذات الدنيا وطيباتها، فإذا فاتته تلك الأشياء يعظم حزنه وتلهفه عليها.
واعلم أن تشبيه الحياة الدنيا بهذا النبات يحتمل وجوهاً لخصها القاضي رحمه الله تعالى.
الوجه الأول: أن عاقبة هذه الحياة الدنيا التي ينفقها المرء في باب الدنيا كعاقبة هذا النبات الذي حين عظم الرجاء في الانتفاع به وقع اليأس منه، لأن الغالب أن المتمسك بالدنيا إذا وضع عليها قلبه وعظمت رغبته فيها يأتيه الموت. وهو معنى قوله تعالى: {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أخذناهم بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] خاسرون الدنيا، وقد أنفقوا أعمارهم فيها، وخاسرون من الآخرة، مع أنهم متوجهون إليها.
والوجه الثاني: في التشبيه أنه تعالى بين أنه كما لم يحصل لذلك الزرع عاقبة تحمد، فكذلك المغتر بالدنيا المحب لها لا يحصل له عاقبة تحمد.
والوجه الثالث: أن يكون وجه التشبيه مثل قوله سبحانه: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] فلما صار سعي هذا الزراع باطلاً بسبب حدوث الأسباب المهلكة، فكذلك سعي المغتر بالدنيا.
والوجه الرابع: أن مالك ذلك البستان لما عمره بأتعاب النفس وكد الروح، وعلق قلبه على الانتفاع به، فإذا حدث ذلك السبب المهلك، وصار العناء الشديد الذي تحمله في الماضي سبباً لحصول الشقاء الشديد له في المستقبل، وهو ما يحصل له في قلبه من الحسرات. فكذلك حال من وضع قلبه على الدنيا وأتعب نفسه في تحصيلها، فإذا مات، وفاته كل ما نال، صار العناء الذي تحمله في تحصيل أسباب الدنيا، سبباً لحصول الشقاء العظيم له في الآخرة.
والوجه الخامس: لعله تعالى إنما ضرب هذا المثل لمن لا يؤمن بالمعاد، وذلك لأنا نرى الزرع الذي قد انتهى إلى الغاية القصوى في التربية، قد بلغ الغاية في الزينة والحسن. ثم يعرض للأرض المتزينة به آفة، فيزول ذلك الحسن بالكلية، ثم تصير تلك الأرض موصوفة بتلك الزينة مرة أخرى. فذكر هذا المثال ليدل عل أن من قدر على ذلك، كان قادراً على إعادة الأحياء في الآخرة ليجازيهم على أعمالهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
المسألة الثانية: المثل: قول يشبه به حال الثاني بالأول، ويجوز أن يكون المراد من المثل الصفة. والتقدير: إنما صفة الحياة الدنيا.
وأما قوله: {وازينت} فقال الزجاج: يعني تزينت فأدغمت التاء في الزاي وسكنت الزاي فاجتلب لها ألف الوصل، وهذا مثل ما ذكرنا في قوله: {ادارأتم} [البقرة: 72] {اداركوا} [الأعراف: 38].
وأما قوله: {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} فقال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد أن أهل تلك الأرض قادرون على حصادها وتحصيل ثمراتها. والتحقيق أن الضمير وإن كان في الظاهر عائداً إلى الأرض، إلا أنه عائد إلى النبات الموجود في الأرض.
وأما قوله: {أَتَاهَا أَمْرُنَا} فقال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد عذابنا. والتحقيق أن المعنى أتاها أمرنا بهلاكها. وقوله: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا} قال ابن عباس: لا شيء فيها، وقال الضحاك: يعني المحصود. وعلى هذا، المراد بالحصيد الأرض التي حصد نبتها، ويجوز أن يكون المراد بالحصيد النبات، قال أبو عبيدة: الحصيد المستأصل، وقال غيره: الحصيد المقطوع والمقلوع. وقوله: {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالامس} قال الليث: يقال للشيء إذا فنى: كأن لم يغن بالأمس. أي كأن لم يكن من قولهم غني القوم في دارهم، إذا أقاموا بها، وعلى هذا الوجه يكون هذا صفة للنبات.
وقال الزجاج: معناه: كأن لم تعمر بالأمس، وعلى هذا الوجه فالمراد هو الأرض، وقوله: {كذلك نُفَصّلُ الآيات} أي نذكر واحدة منها بعد الأخرى، على الترتيب. ليكون تواليها وكثرتها سبباً لقوة اليقين، وموجباً لزوال الشك والشبهة.


{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)}
المسألة الأولى: في كيفية النظم. اعلم أنه تعالى لما نفر الغافلين عن الميل إلى الدنيا بالمثل السابق، رغبهم في الآخرة بهذه الآية. ووجه الترغيب في الآخرة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثلي ومثلكم شبه سيد بنى داراً ووضع مائدة وأرسل داعياً، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المائدة ورضي عنه السيد، ومن لم يجب لم يدخل ولم يأكل ولم يرض عنه السيد فالله السيد، والدار دار الإسلام، والمائدة الجنة، والداعي محمد عليه السلام».
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنيبها ملكان يناديان بحيث يسمع كل الخلائق إلا الثقلين. أيها الناس؛ هلموا إلى ربكم والله يدعوا إلى دار السلام».
المسألة الثانية: لا شبهة أن المراد من دار السلام الجنة، إلا أنهم اختلفوا في السبب الذي لأجله حصل هذا الاسم على وجوه:
الأول: أن السلام هو الله تعالى، والجنة داره. ويجب علينا هاهنا بيان فائدة تسمية الله تعالى بالسلام، وفيه وجوه:
أحدها: أنه لما كان واجب الوجود لذاته فقد سلم من الفناء والتغير، وسلم من احتياجه في ذاته وصفاته إلى الافتقار إلى الغير، وهذه الصفة ليست إلا له سبحانه كما قال: {والله الغنى وَأَنتُمُ الفقراء} [محمد: 38] وقال: {يا أيها الناس أَنتُمُ الفقراء إِلَى الله} [فاطر: 15].
وثانيها: أنه تعالى يوصف بالسلام بمعنى أن الخلق سلموا من ظلمه، قال: {وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] ولأن كل ما سواه فهو ملكه وملكه، وتصرف الفاعل في ملك نفسه لا يكون ظلماً. ولأن الظلم إنما يصدر إما عن العاجز أو الجاهل أو المحتاج، ولما كان الكل محالاً على الله تعالى، كان الظلم محالاً في حقه.
وثالثها: قال المبرد: إنه تعالى يوصف بالسلام بمعنى أنه ذو السلام، أي الذي لا يقدر على السلام إلا هو، والسلام عبارة عن تخليص العاجزين عن المكاره والآفات. فالحق تعالى هو الساتر لعيوب المعيوبين، وهو المجيب لدعوة المضطرين، وهو المنتصف للمظلومين من الظالمين.
قال المبرد: وعلى هذا التقدير: السلام مصدر سلم.
القول الثاني: السلام جمع سلامة، ومعنى دار السلام: الدار التي من دخلها سلم من الآفات. فالسلام هاهنا بمعنى السلامة، كالرضاع بمعنى الرضاعة. فإن الإنسان هناك سلم من كل الآفات، كالموت والمرض والألم والمصائب ونزعات الشيطان والكفر والبدعة والكد والتعب.
والقول الثالث: أنه سميت الجنة بدار السلام لأنه تعالى يسلم على أهلها قال تعالى: {سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ} [يس: 58] والملائكة يسلمون عليهم أيضاً، قال تعالى: {والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 23، 24] وهم أيضاً يحيي بعضهم بعضاً بالسلام قال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام} [يونس: 10] وأيضاً فسلامهم يصل إلى السعداء من أهل الدنيا، قال تعالى: {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أصحاب اليمين فسلام لَّكَ مِنْ أصحاب اليمين} [الواقعة: 90، 91].
المسألة الثالثة: اعلم أن كمال جود الله تعالى وكمال قدرته وكمال رحمته بعباده معلوم، فدعوته عبيده إلى دار السلام، تدل على أن دار السلام قد حصل فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لأن العظيم إذا استعظم شيئاً ورغب فيه وبالغ في ذلك الترغيب، دل ذلك على كمال حال ذلك الشيء، لا سيما وقد ملأ الله هذا الكتاب المقدس من وصف الجنة مثل قوله: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةٍ نَعِيمٍ} [الواقعة: 89] ونحن نذكر هاهنا كلاماً كلياً في تقرير هذا المطلوب، فنقول: الإنسان إنما يسعى في يومه لغده. ولكل إنسان غدان، غد في الدنيا وغد في الآخرة. فنقول: غد الآخرة خير من غد الدنيا من وجوه أربعة: أولها: أن الإنسان قد لا يدرك غد الدنيا وبالضرورة يدرك غد الآخرة.
وثانيها: أن بتقدير أن يدرك غد الدنيا فلعله لا يمكنه أن ينتفع بما جمعه، إما لأنه يضيع منه ذلك المال أو لأنه يحصل في بدنه مرض يمنعه من الانتفاع به.
أما غد الآخرة فكلما اكتسبه الإنسان لأجل هذا اليوم، فإنه لابد وأن ينتفع به.
وثالثها: أن بتقدير أن يجد غد الدنيا ويقدر على أن ينتفع بماله، إلا أن تلك المنافع مخلوطة بالمضار والمتاعب، لأن سعادات الدنيا غير خالصة عن الآفات، بل هي ممزوجة بالبليات، والاستقراء يدل عليه. ولذلك قال عليه السلام: «من طلب مالم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق» فقيل يا رسول الله وما هو؟ قال: «سرور يوم بتمامه» وأما منافع عز الآخرة فهي خالصة عن الغموم والهموم والأحزان سالمة عن كل المنفرات.
ورابعها: أن بتقدير أن يصل الإنسان إلى عز الدنيا وينتفع بسببه، وكان ذلك الانتفاع خالياً عن خلط الآفات، إلا أنه لابد وأن يكون منقطعاً. ومنافع الآخرة دائمة مبرأة عن الانقطاع، فثبت أن سعادات الدنيا مشوبة بهذه العيوب الأربعة، وأن سعادات الآخرة سالمة عنها. فلهذا السبب كانت الجنة دار السلام.
المسألة الرابعة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفر والإيمان بقضاء الله تعالى قالوا: إنه تعالى بين في هذه الآية أنه دعا جميع الخلق إلى دار السلام، ثم بين أنه ما هدى إلا بعضهم فهذه الهداية الخاصة يجب أن تكون مغايرة لتلك الدعوة العامة، ولا شك أيضاً أن الأقدار والتمكين وإرسال الرسل وإنزال الكتب أمور عامة، فوجب أن تكون هذه الهداية الخاصة مغايرة لكل هذه الأشياء، وما ذاك إلا ما ذكرناه من أنه تعالى خصه بالعلم والمعرفة دون غيره.
واعلم أن هذه الآية مشكلة على المعتزلة وما قدروا على إيراد الأسئلة الكثيرة، وحاصل ما ذكره القاضي في وجهين:
الأول: أن يكون المراد ويهدي الله من يشاء إلى إجابة تلك الدعوة، بمعنى أن من أجاب الدعاء وأطاع واتقى فإن الله يهديه إليها.
والثاني: أن المراد من هذه الآية الألطاف. وأجاب أصحابنا عن هذين الوجهين بحرف واحد، وهو أن عندهم أنه يجب على الله فعل هذه الهداية، وما كان واجباً لا يكون معلقاً بالمشيئة، وهذا معلق بالمشيئة، فامتنع حمله على ما ذكروه.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10